الدكروري يكتب عن الدمشقي ومنهج المحدثين


بقلم / محمـــد الدكـــروري
ذكرت المصادر الكثير والكثير عن الإمام إبن عساكر وهو أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، وقيل أن منهجه في الكتاب هو منهج المحدثين، فقد اعتمد في الرواية على السند مهما طال أو تعدد، فلا يذكر خبرا إلا ويسبقه إسناده، وقد يكرر الخبر الواحد ما دامت هناك فائدة من زيادة أو توضيح، واتبع في التراجم التنظيم الألفبائي المعروف، مراعيا في ذلك أسماء الآباء بعد أسماء المترجمين، لكنه بدأ التراجم بمن اسمه أحمد، تيمنا باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن فرغ من التراجم المرتبة أسماؤها ترتيب المعجم، أورد من عُرف من الرجال بكنيته فقط، مراعيا في ذلك الترتيب الألفبائي أيضا، ثم أعقب ذلك بالمجاهيل ممن عُرفت لهم رواية ولم يعرف لهم اسم، ثم ختم الكتاب بتراجم النساء.
ملتزما المنهج نفسه في الترتيب والتنظيم، وقد خصهن بمجلد مستقل، اتسع لمائة وست وتسعين ترجمة من شهيرات النساء في العلم والأدب والغناء، وقد اعتمد ابن عساكر في جمع مادة كتابه الضخمة على ثلاثة أنواع من المصادر، وهم السماع من شيوخه وهم يعدون بالمئات روى عنهم وقرأ عليهم، ثم المكاتبة والمراسلة معهم، ثم الاعتماد على مؤلفات السابقين، ويحتاج إحصاء هذه الموارد التي نهل منها ابن عساكر إلى جهد جهيد، نظرا لضخامة الكتاب، وحسبك أن تعلم أن المجلدة الأولى من الكتاب، أخذت مواردها عن مائة وستة وخمسين شيخا بالسماع، وعن ستة عشر شيخا بالمكاتبة، وأربعة عشر كتابا من بينها كتب البلاذري والواقدي والبخاري والجشهياري، ولعل من أهم ما صنعه ابن عساكر.
أنه حفظ لنا بكتابه المؤلفات والمصادر المتفرقة التي كتبها الدماشقة وغيرهم حول تاريخ دمشق في القرون السابقة ثم أتى عليها الضياع، كما رسم صورة لبلاد الشام وحركة السياسة بها، وازدهار الحضارة العربية، والنشاط الثقافي الذي كانت تموج به دمشق منذ أن فتحها المسلمون، وقد لقي الكتاب عناية واهتماما بدءا من جهود القاسم ابن المؤلف، الذي ذيله وانتخب منه، ثم قام عدد من العلماء باختصار الكتاب مثل ابن منظور الذي صنع مختصرا لتاريخ دمشق، وعلى الرغم من كونه اختصارا فقد جاء في تسع وعشرون مجلدا حين تم طبعه أخيرا محققا في دمشق، وفي العصر الحديث قام عبد القادر بدران، بعمل تهذيب للكتاب، لكنه لم يكمله، ولقد كان بيت الحافظ ابن عساكر معمورا بالعلم.
فامتد إلى كل فرد من أفراده، واستطاع الإمام الحافظ بأخلاقه الكريمة وسماحه نفسه أن تقتدي به أسرته، وتسير على منواله، فابنه القاسم كان حافظا من حفاظ الحديث، أتم عمل أبيه ونقّحه وقرأه عليه، وزوجة الإمام وأم أبنائه هي السيدة عائشة بنت علي بن الخضر، وكان لها شغف بالحديث، فكان الزوج الكريم يحضر لها محدثات يسمعنها الحديث، ثم يسمع منها أبناؤها ويتلقون عنها كما يتلقون عن أبيهم، وشاء الله أن تتوفى هذه السيدة الكريمة قبل وفاة زوجها في سنة خمسمائة وأربعة وستون للهجرة، فتركت في نفسه أسى وحسرة، وظل الإمام محل ابن عساكر تقدير الناس والولاة، فكان يحضر مجالسه نور الدين محمود سلطان دمشق الذي قربه وبنى له دار السنة.
وكان صلاح الدين الأيوبي، يجله ويحضر مجالس تدريسه، ومكث الإمام ابن عساكر يؤدي رسالته حتى لبّى نداء ربه في الحادي عشر من شهر رجب لعام خمسمائة وواحد وسبعين للهجرة.