الوشاح الأبيض والنظارة السوداء


بقلم / مايسة إمام
نسائم الفجر تلثم رؤوس الراجلين إلي المسجد والمؤذن يستعد للنداء الإلهي لنحيّ علي الصلاة
ألا وقد آليت علي نفسي ألا أُحرٌم صحبة أهل الفجر كل يوم وأن أكون ضمن الفائزين برحابها ورحابتها
وخلال تلك الطقوس الروحانية السامية لفت انتباهي عند وصولي للمسجد مبكرا كل يوم …….رجل يحتمي بعمود من الأعمدة يرتدي جلبابا ووشاحا ناصعا البياض مع نظارة سوداء تخفي عينيه، وقد بدا لي الرجل ممن تهفو إليهم الأرواح حد الالتصاق حتي دون أن تعرفه.
لم أستطع أن أمنع نفسي من الانجذاب إليه خاصة حين وجدته يتأخر في الخروج عن المسجد بعد الصلاة ويظل متشبثا بذلك العمود تشبث الطفل بأمه وتكرر هذا المشهد يوميا بنفس التفاصيل حتي جاءني هاجس يوما أن اراقبه عن بعد عقب الخروج من المسجد ، واعرف سر هذا الذي يتصدر المهرولين للمسجد كل يوما ويكون آخر الراحلين عنه
وبعد أن ودعنا صلاة الفجر علي أمل لقاء الغد وتوالي الجميع للخروج وأنا منهم، استترت بالظلام واحدى البنايات القريبة انتظر
وطال انتظاري حتي أطل وشاحه الأبيض الناصع ونظارته السوداء وبيده عصا يلوح بها يمينا ويسارا يتحسس الطريق ، أدركت حينها سر النظارة السوداء التي تتستر عيناه خلفها استحياء ، وسر تأخره في مغادرة المسجد حتى يرحل الجميع فلا تخطئ خطواته الكفيفة أمامهم
شعرت حينها أنه من هؤلاء الذين تأبى عليهم عزة أنفسهم وكرامتهم الاتكالية واستدرار عطف الآخرين ، وأنه ممن يتوضؤن بالأماني ليروا ألوان الحياة الزاهية رغم الظلام الذي يحيا فيه
لومت نفسي كثيرا لفضولي البغيض، وزادني ضميري وكزا علي وكز ، فقررت أن اتتبعه عن بعد خشية أن يتعثر أو يسقط فيصاب بمكروه فأكون عينه التي تبصر وعصاه التي يتوكأ عليها حتي يصل لبيته سالما واعتبرت ذلك صدقة يوميةعن صحتي .
ذات يوم قرر صاحب الشركة الذي اعمل بها إقامة حفل كبير بأحد الفنادق الفاخرة التي تنتهي علاقة أمثالنا بها أمام شاشات التليفزيون والمحمول وذلك للمكاسب التي حققتها الشركة هذا العام ودعوة جميع العاملين بالشركة كنوع من الترضية
وبدأ الجميع يستعدون لتلك لليلة الموعودة التي تراودهم فيها أحلام الرفاهة التي لم يعرفوا لها مذاقا من قبل
وما جعلني اتردد في حضور الحفل أنه سيتمد حتى الساعات الأولي من الصباح وبذلك افقد ثواب صلاة الفجر في المسجد وأداء صدقة الصحة التي نذرتها لله يوميا وقررت اخبار زملائي بعدم الحضور
لكنهم هاجوا وماجوا واتهموني بأنني علي حد قولهم ( فقري ) وأنه يوم في العمر لن يتكرر ويمكن أن أصلي الفجر في أي مكان بالفندق إن شئت وليس بالضرورة نفس المسجد ولأتنازل اليوم عن صدقتي المعتادة واعوضها في يوم آخر. .. فرضخت لالحاحهم وذهبت معهم
وبدا لي المشهد ليلة من ليالي الف ليلة وليلة التي سمعنا عنها ولم نرها ، الوجه الماتع للكرة الأرضية الذي لا نعرفه وفيه ألوان طعوم ولحوم لا نعرف لها اسما ،حلوي بجنسيات شرقية وغربية ، حلال الشراب لمن رغب وحرامه لمن بعقله ذهب ، موسيقى وفقرات غنائية ، ثم يعلن مقدم برنامج الحفل عن مفاجأة في ختام الليلة ، وتوقع الجميع أن أن تكون لإحدي الفنانات الشهيرات أو الصواريخ من الراقصات
كان المشهد بالنسبة لي أشبه بأحداث فيلم سينمائي أُقحمت فيه، عالم من العوالم الخفية الذي لا يعرفها الكادحين أمثالي
أنماط بشرية قادمة من كوكب المال والجاه والسلطة ، وشعرت بتضارب مشاعري بين الضآلة والقزامة. ، الغربة والدهشة
التوتر ، وبعض السعادة الآنية
لم ينتزعني من هذا الصراع الداخلي إلا صوت جهوري لمقدم برنامج الحفل يعلن بفخر عن المفاجأة و التي اطفأت الأنوار استعدادا لظهورها ولم يبق سوي ضوء ذهبي ينطلق نحو نقطة محددة علي المسرح مع موسيقى راقصة جعلت الجميع يتمايل ويتراقص معها ، وهاهو الستار يفغر فاه ليقذف إلينا رداء لؤلؤيا بريقه يخطف الأبصار يتقدم بخطوات راقصة محنكة وتمكن ومهارة وصوت الميكروفون يهلل : مع نجم الرقص الشرقي سيمووووووووو
ضج المكان بالصفير والتصفيق ووجدتني اتمتم لزميلي ساخرا : هي اسمها نجمة ولا نجم الراجل دا شكله سكران ؟!
رد زميلي ضاحكا : لا ياسيدي مش سكران دا سيموووو العايق رجل فعلا وأشهر راقص في الساحة الآن دا بيتحاسب بالدولار وبالساعة اتفرج اتفرج
أصابني الذهول وأنا التفت إلي المسرح لأجد هذا السيمووو يتلوي بحركات ثعبانية ماهرة ويتمايل ويتغنج كما تفعل النساء والجميع يصفقون ويشجعون ويصرخون : سيمووو ، سيمووووو وأنا مازالت مشدوها مما أسمع وأرى وعيناي تجولان بين الوجوه حتي استقرت إلى خشبة المسرح لأدقق النظر في نجم الحفل الذي يصرخون باسمه كأنه ولي من أولياء الله الصالحين يتبركون به
ربما كنت أحلم أو ماشابه وأنا أجد فمي يتسع تلقائيا ولساني يتدلى ببلاهه حين قفز هذا السيمووو بين المدعوين قفزة قرود الغاب ليكمل وصلته الراقصة بين المعجبين والمعجبات ويصل إلى طاولتنا فيلتقي وجهانا مباشرةوتصطدم عيناي بعينيه فاأفزٌع ويرتبك هو حتي يكاد يسقط علي الأرض وهو يفر من أمامي فرار جرذ مذعور وأنا أردد مصدما : هو …إنه هو…..
صاحب الوشاح الأبيض والنظارة السوداء
وتذكرت صلاة الفجر فهرولت مسرعا اغادر الفندق أبحث عن وسيلة تعيدني لعالمي وتخرجني من هذا الفيلم السينمائي الهابط
انتظرت طويلا لأحصل علي وسيلة تضعني في آله الزمن وتعيدني لصحن المسجد وفجأة ظهرت إحدى سيارات الأجرة
القيت بنفسي داخلها وكأنني أفر من شبح يطاردني
واستمر الهواء يصفعني طوال الطريق كي أفيق من شرودي الذي لم يتنه إلا وأنا أمام باب المسجد وقبل الآذان بلحظات
أسرعت أتوضأ وأزيل ما علق بي وأدفع نفسي بين صفوف المصلين وماأن علا صوت المؤذن الله أكبر الله أكبر حتى سكنت روحي واطمئنت ، وهدأت ثورة ضربات قلبي التي كادت تشق صدري شقا ،
انتهيت صلاتي بالتسليم يمينا ويسارا ورفعت راسي لأجد العمود الذي كان شاهد العيان علي صاحب الوشاح الأبيض والنظارة السوداء الذي تبخر هذه الليلة
تمت